السياحي

أول طيار يحلق بعينيه عبر مسيَّرات الدرونز ليرى عمان من السماء

كان أول من يحمل للناس بشارات الأودية حين يراها بعيون «الدرونز» فيزف للناس فرح القدوم.
وكان يتابع استجابات الروافد وهي تتنادى إلى المسار الكبير للوادي فينقل صخب الماء المتلاطم بصخر السفوح، ويسابق انحدارها من علياء الجبال إلى عطش الأرض.
ومع كل تسكب للمطر يكون أحمد بن سويدان في المشهد المبلل بفرحة طفل ورؤية فنان وصبابات عاشق فيخرج متأبطا طائرته الصغيرة وأدوات التوجيه عن بعد.
ومنذ أن تلونت سماء الدنيا بطنين المسيَّرات وتعددت استخداماتها من العسكرية إلى المدنية كان أحمد بن سويدان أول طيار يحلق بعينيه ليفض بكارات الأمكنة العذراء.

زاره في صومعة عشقه
حمود بن سالم السيابي

وبينما العالم المجنون يسيِّر الدرونز ليلاحق سيارة في الصحراء فيفجرها بمن فيها قبل التثبت من نواياها، أو ينقض على بيت فيقلب عاليه سافله، أو يمارس الحقد على مكاسب الوطن فيحرق ويدمر، كانت الدرونز التي يطلقها أحمد بن سويدان في الأفق الأزرق تلاحق مها استلت قرنيها لتهيم في الصحراء الكبيرة بحثا عن وليدها التائه أو وعولا تشابكت قرونها بعد احتراب خائب على الأنثى أو «نفتة» عسل بري تتخذ من الجبال كهوفا ومما يعرشون، أو سرب صفارد يدشن المواسم، أو مرج ورد يستبق الصباحات فيبوح بالعطر ودهشة اللون.
ويعود أول اتصال لي بـ (معالي) أحمد بن سويدان البلوشي وزير البريد والبرق والهاتف إلى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي حين زرته في خيمته بالمخيم السلطاني بسيح البركات لأملأ جهاز التسجيل بمشروعات وزارته وأحلامه الخضراء.
ودارت الأيام وتركنا المواقع إلا أننا أبقينا الذكريات تنسج وشائجها.
وقد دعاني لزيارة صومعة عشقه في مدينة الإعلام لأرى الراهب الذي استمات لإدخال الدرونز إلى البلاد كأول الرواد، واستقتل لنيل الإذن بالتحليق في سماوات الوطن بعينيه كأول المصورين لعمان من السماء.
ورأيته وقد قارب تجربته العسكرية والأمنية وخبرته في مجال الاتصالات فوظفها أحسن توظيف في النجاحات التي نقلته من عشق التصوير الذي بدأ كهواية من خلال كاميرا صغيرة ابتاعها بعشرين روبية في الصبا الغض إلى التغني بجمال الوطن عبر الصورة الاحترافية.
وكانت الصومعة التي زرتها عبارة عن محطة تلفزيونية لا ينقصها إلا البث ليشاهده الناس، فعلى جدارها الشمالي انتصبت خارطة كبيرة مرسومة بأضواء «الزينون» يستقبل بجوارها زوار صومعته ليتابعوا عروضه التصويرية على أكواب من شاي بنكهة «الميز» العسكري.
وفي الحائط الغربي شاشة تلفزيونية كبيرة وأمامها وحدة «مونتاج» متطورة يتنقل الفنان أحمد سويدان بأصابعه على أزرارها العديدة، بينما الحائط الجنوبي ينفتح لاستديو آخر ملغم بعشرات الأجهزة الفائقة الدقة والعديد من الأشرطة لحصاد السنوات والجهد.
وقد أخذت الدرونز وضعية الهبوط في الصومعة بعد تحليق ناجح في سماوات عمان وهي ترصد قطار المسيرة المباركة في محطات توقفه المتعددة .
ولم يكن أحمد بن سويدان البلوشي بحاجة لأن يضيء تجربة التعامل مع الطائرات المسيَّرة ومصاعبها وتحدياتها وتكاليفها العالية ومتعتها وأشواقها فقد ترك كل ذلك لحصاد رفيف الدرونز يسرد الحكاية العمانية الطويلة.
وكانت بداية العروض التي شاهدتها في صومعته مع تحليق الدرونز في أجواء دار الأوبرا السلطانية التي لونها الليزر بالأحمر والأبيض والأخضر وتلألأت بنحاسيات الفرق الموسيقية وهي تقدم العرض الموسيقي «عمان والعالم» بمناسبة احتفالات البلاد بالعيد الوطني الخامس والأربعين المجيد فكانت الطائرة المسيَّرة وهي تنقل خطوط الليزر وكأنها تؤدي عرضا أوبراليا آخر يردف العرض الموسيقي من خلال تعامد خطوط الليزر وتقاطعها وتكسرها على تفاصيل بذخ البناء.
وكانت يدا الفنان أحمد سويدان على جهاز التوجيه وعيناه على «السكانر» الذي يعرض حصاد الرفيف، فطافت الدرونز بحديقة الأوبرا السلطانية قبل أن تتشكل بنافورتها الحالية ثم طافت بتفاصيل دار الأوبرا السلطانية.
ومع فرحة عمان والعمانيين بالعودة الميمونة للمقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس المعظم حفظه الله ورعاه من ألمانيا كانت الدرونز في قلب المشهد وهي تتنقل بين ثمانين يختا شراعيا في مسيرة بحرية في منتزه كلبوه اتخذت فيها الأشرعة ألوان علم البلاد، إلى المهرجان البحري بالعذيبة، إلى مسيرة الولاء والعرفان بالسيب التي تلفعت بأكبر علم عماني بينما رفدت المسيرة الراجلة بمسيرة أخرى بالقوارب، إلى مهرجان الفرح بالعودة الميمونة في بركاء فمسيرة «أشرق النور» بالرحبة بمحافظة جنوب الباطنة مع عرضة للهجن، إلى مسيرة الولاء والعرفان بسمائل والتي تقدمها حملة الأعلام والرايات.
وعودة لعروض الدرونز في مسقط فقد تحركت الكاميرا في مشهد أخاذ باتجاه شارع السلطان قابوس تاركة بريق الشاطئ والإنتركونتننتال ومقاهي حي الصاروج وبيوته البيضاء والبحر الأزرق على يمين الشاشة بينما فيلات مدينة الإعلام فجامع أهل البيت وانتهاء بالجبل إلى الشمال.
وتواصل الإبداع مع الدرونز وهي تنقل من علوها الشاهق اصطفاف مباني الوزارات من المبنى السابق لمجلس الدولة وانتهاء بوزارة الصحة وتقابلها في الضفة الأخرى البنوك والمعارض حتى مآذن مسجد الزواوي.
وتتفرد درونز أحمد بن سويدان بزوايا لجامع السلطان قابوس الأكبر في بوشر وجوامع السلطان قابوس في صحار ونزوى وصلالة.
وتطوف بالمشاهد في قصر العلم ثم تتواصل نحو البستان فتعرض مبنى مجلس عمان وميناء السلطان قابوس وشوارع وجسور مسقط مع التقاطات رائعة للمحكمة العليا والميدان الحي التجاري بروي وحديقة القرم الطبيعية.
وتصعد بنا الدرونز إلى الأخضر الأشم ومعه يتصاعد عبق الرمان والجوز واللوز والبوت والزعتر والعلعلان فنزور القرى القريبة من القمر وغير البعيدة عن الشمس ونشهد الجهد الذي بذلته الحكومة الرشيدة وهي تمد التنمية إلى كل شبر.
وفي عرض آخر للدرونز كان موضوعه ظفار فنصعد مع الدرونز إلى قمم سمحان والقمر لنتابع من هناك قطعان السخال البيضاء وهي تخترق الضباب كالحلم وعودة الرعاة بأبقارهم في المساء إلى الأكواخ المتوارية في الغمام.
وتأخذنا الكاميرا إلى تفاصيل التنمية الشاملة في مدن وقرى ولايات المحافظة فنصعد عقبة غادية وعقبة وادي سيق وننزل مع الطرق المتعرجة إلى المدن الناهضة بجوار الشطآن.
وتصادفنا المواسم الخريفية فنشهد جريان دربات النهر القادم من السماء كأجمل ما فتحت عليه عين وسمعت خريره أذن.
ولم يكن من الممكن بدون تحليق الدرونز أن نتجول في ذلك الجمال وندخل الأخاديد التي نحتها الزمن فكساها الخريف شالاته الخضراء.
وتنقلنا الدرونز في مشاهد أخرى في صلالة الوفية وهي تكبر وتنهض وتتجدد لنرى البحر الهادر الموج بينما النارجيل المائل وهو يتهادى ليتوازن بوداعته مع غضب البحر.
ونرى صلالة وهي تمد دروبا بلون الكحل وترتفع على كل شبر مفردات النهضة المباركة من مدارس ومستشفيات إلى جانب الفنادق والمنتجعات والمتنزهات والأسواق.
وتنقلنا الدرونز إلى الظاهرة وفيها نستقبل الأودية وهي تنساب بلون التربة ومعها صخب الناس والسيارات وتراقص الأطفال الذين يحتفون بهذا الزائر لعطش الأرض وظمأ القلوب.
وفي مشهد من قلب مدينة الفنان ينقلنا صاحب الدرونز إلى عبري بمدنها وقراها وجبالها وقلاعها ومساجدها وهو يتفنن في إبراز حصاد النهضة المباركة.
ولم يكن التاريخ ببعيد عن تناول الدرونز وهي تحلق فوق آثار ومقابر كبكب في مسقط وتضيف لونا أشهب للشهباء في نزوى وتحلق بعيوننا فوق جبرين وقلعة بهلا ثم تتفرد بمشهد مهيب لحارة الحشاة في وادي بني هني ومنها إلى المقحم في الرستاق ثم تعرج إلى الحارة القديمة في الحمراء وتصعد بنا إلى مسفاة العبريبن ونشم بالتقاطاتها جص بيوت حارة المنزفة في إبرا وحصون وبيوت تنوف وآثار البليد وخور روري ثم عودة لحصن الخندق في البريمي وقلعة نخل والمنترب في بدية وحصن مقنيات مرورا بحصن وأبراج سمائل.
ونحلق مع الدرونز باتجاه الصحاري الممتدة إلى ما لا نهاية في حمراء الدروع وصحاري الوسطى والتي تبدو فيها النبتات البرية من ذلك العلو كخطوط سريالية بينما الشجر والظل يسكبان في المشهد الخلاب الحنين إلى البادية.
وتفرش الدرونز قطيفة من الجمال في وادي العربيين وبلدة الخضراء بوادي السحتن ووادي بني عوف والعليا بوادي بني خروص والقورة ووكان بوادي مستل وقرية صوط بوادي الطائيين ووادي بني خالد ووادي الحوقين وسد تنوف وسد وادي ضيقة والبحيرات الوردية.
وتحلق الدرونز في العفية فتتلألأ منارة العيجة وأسرعة السفن والجسور المعلقة والشوارع والمآذن ونبض الحياة العصرية في هذه الحاضرة الفينيقية.
وتنتقل إلى رأس الحد لتتبع الدرونز حياة السلاحف الخضراء من الرمل إلى القعر.
وتسهر الدرونز مع عشاق الرمال وتتوقف عند سباقات سيارات الدفع الرباعي لقهر الرمال.
ورغم التألق الاحترافي للفنان أحمد سويدان إلا أنه لم يفكر باستثمار حصاد التحليق في سماوات عمان لهدف ربحي بل أراده إسهام عاشق للوطن يتخذ من الكاميرا وسيلته للتعبير ليكتب قصيدته ولوحته ونغمه، متخذا من الارتفاعات العالية زاويته للنظر إلى جمال المكان.
وكانت بادرة مقدرة حين انفتح تلفزيون سلطنة عمان على إبداعات الفنان أحمد بن سويدان البلوشي حفزه بعرض إبداعاته في ساعات بثه كفواصل جمالية.
وأخرج من صومعة أحمد بن سويدان أول رائد طيران يحلق بعينيه ليرى عمان من السماء تاركا مشاهده تتبارى وتتسابق في ميادين الجمال بينما الراهب ما يزال يتعبد بحب الوطن فيرسمه في صورة علوية تحضر فيها كل الزوايا وكل الأبعاد وكل الألوان.
أخرج وأنا أتأبط كتابا بعنوان «عمان من السماء وبين دفتيه لوحات الفنان أحمد سويدان العاشق حتى النخاع لتفاصيل تفاصيل تفاصيل عمان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق