مقالات

عدتُ بفكري للصبا والطفولة

ماجد بن محمد بن ناصر الوهيبي

بعض الأمكنة تسكن في المخيلة، لا تغيب عنها قيد أنمُلة، لا سيما مسقط الرأس بمدينة روي الفاتنة مرتع الصبا حيث خرير المياه بتلك الطويان التي طغت عليها الأبنية، وحيث الذكريات والأُحجيات وأيام الصبا والمدرسة، وملتقى الأقران بملعب الفتح وسر اللقاء قبل وصول وسائل التواصل الحديثة.

فحينما تتلبد السماء بالغيوم آنذاك يجتمع الرفقاء بملاعبها الشاسعة، شفرة لا يعرفها إلا الأقران وعشاق الكرة ومختلف الألعاب، تأتي تباشير القيظ من تلك المزارع المنتشرة والمحيطة بروي وكأن روي واحة غناء وسط مملكة، تخيط النساء عقود الخلال كما جرت العادة لتردتيها لبعض الوقت ثم يؤكل الخلال بعد ذلك تبشرة بقدوم القيظ عادات عُمانية متوارثة، لتبدأ تباشير الرطب وكان غالبًا مايكون رطب النغال في مقدمة التباشير في القيظ لبعض الأمكنة وفي أخرى يتقدم رطب القِدمي ورطب الخمري وهما نوعان محببان وربما نادران في بعض الأمكنة، وقد يتقدم رطب المزناج في بعض الأمكنة وهو أشبه بالبرني في نحافته إلا أنه أحمر اللون.

ينتشر عبق الليمون هنا وهناك وشذى الياسمين لا سيما في الصباح الباكر ، كما يحلو مع هذه التباشير فاكهة الفرصاد باللهجة العُمانية وهو توت العُليق وغير ذلك من ثمار الصيف اللذيذة والمبهجة ، كما تكثر خلايا عسل النحل وخلايا الدبابير بمختلف ألوانها فمنها الأصفر ومنها ذو اللونين وهناك دبابير الطين التي تبني بيوتها من الطين، والصيف هو موسم التزاوج للكثير من الكائنات الحية، لذا تجد أعشاش مختلف الطيور أينما توجهت فربما يصادف الواحد منا بعض البيض وقد تدحرج من عشه أو ربما يرى فرخًا وقد سقط من عشه ليعيد كل ذلك إلى العش ما استطاع إلى ذلك سبيلا هذا إن لم يتطفل بأخذ فراخ هذه الطيور زاعمًا تربيتها.

يمر علينا الصيف بجوه الملتهب إلا أن عطايا ربنا الكريم ومننه الوفيرة تنهال علينا من كل حدب وصوب من الغلال والثمار وتهطل الأمطار خلال فصل الصيف في بعض الأحيان ، فيتلطف الجو لتخفيف وطأة الحرارة وينجلي الغبار، هناك من الأطعمة ما يحن لها الواحد منا ويسعى للحصول عليها مجددًا ما استطاع إلى ذلك سبيلًا لأنها تذكره بالصبا والطفولة وبتلك الفترة الجميلة حيث القناعة والبساطة وحُسن لقاء الأحبة بوجه ملؤه الطلاقة والبشاشة، ذكريات تعصف بالقلوب وبالنفوس يقودها الشوق لتلك النواحي، وقد يطول فصل الصيف وتحلو لحظاته وتكون المياه الجوفية رغم حرارة الأرض باردة تنعش الفؤاد وعكس ذلك تمامًا في فصل الشتاء حيث تكون المياه الجوفية دافئة كما هو الحال أيضًا في البيوت المصنوعة من الطين والصاروج فهي باردة في الصيف دافئة في الشتاء وذلك رحمة من الله بخلقه.

يطرق الشتاء الأبواب رويدًا رويدا ويأتي بعده البرد القارس ليحتضن العظام قبل الأجساد، فبرد عُمان يلامس القلوب ويصافح الأجساد متغلغلًا في العظام ، يهرع الناس خلال أشهر الشتاء القليلة لاقتناء المعاطف لاتقاء البرد الجاف، وهذا البرد أشد وطأة من البرد في البلدان الأخرى حيث أن البرد في بعض البلدان يصاحبه تساقط للثلوج، ولكن ليس له تأثيرٌ مباشرٌ للجسد كالبرد الجاف، وما يميز برد عُمان وما جاورها من بلدان هو الجفاف الشديد في مستوى البرودة ، لا سيما في المناطق الداخلية والجبلية منها، حيث يكون أكثر قوةً وعنفوانًا، وللصيف بهجته وعلاماته وللشتاء أيضًا بهجته وعلاماته، يجتمع الأقران في المساء لجمع الحطب وإشعال النار بعيدًا عن الأحياء السكنية وعمل (الصريدان) وذلك للتدفئة فيلتفون حول هذا الصريدان لاتقاء البرد، والصريدان قطعة معدنية مجوفة تُحشى بالحطب ويشعل بداخلها النار للتدفئة، هكذا كان اللقاء ذكريات دونتها السنين تعصف بنا في كل وقت وحين، يردنا إليها الشوق ويتلوها علينا الحنين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق