السياحي

في بيت البرزة أستعيد هيبة مطرح وعمائم الرجال

 

زار بقايا البقايا

حمود بن سالم السيابي

—————–

كلما دنت النوق من بيت البرزة جفلت وكأنها تقرأ اضطراب الجالسين على السنام وتوتر القابضين على العنان فالسيد أحمد بن ناصر البوسعيدي والي السلطان فيصل بن تركي  يدخل المكان أو يخرج من المكان، والسيد محمد الغشام والي السلطان تيمور بن فيصل يتحمحم فترتعب مطرح، والسيد حمد بن فيصل والي السلطان سعيد بن تيمور يهز عصاه فتهجم ألوان قوس قزح على الوجوه.

وكلما اقتربت السيارات من سارية المكان خففت سرعتها إلى أقصى حد يسمح به محرك اللاندروفر أو يستطيع معه سائق البدفورد لأن يخفف الهدير،  فالوالي يمشي في الأرض المطرحية مرحا ويبلغ جبالها طولا.

هنا كان السيد أحمد بن ناصر يستقبل بيرسي كوكس مندوب بريطانيا السامي في الخليج، وهنا يتفيأ السيد الغشام الراية البوسعيدية وهو يبحث مع أعيان مطرح إنشاء سد جديد لكبح جماح مياه وادي خلفان .

وإلى هنا جاء السيد حمد بن فيصل ليجلس على كرسي صهره الغشام فيستقبل قبطان بارجة فرنسية زائرة.

وإلى ساحة بيت البرزة تقاطر أعيان مطرح أواخر ثلاثينيات القرن الماضي يتقدمهم السيد نادر بن فيصل ليشهدوا انتقال الولاية من السيد حمد بن فيصل إلى إسماعيل الرصاصي كأول فلسطيني في التاريخ العماني يجلس على كرسي الولاية وعلى رأسه العمامة الصحارية ومعه حزمة من المناصب التي ترفعه إلى مصاف رجال الصف الأول في الحكم.

أدخل بيت البرزة في ستينيات القرن الماضي والجص المعتق في الجدران ينبض بأزمنة سلطان بن أحمد وسعيد بن سلطان، والمدافع الرابضة أمام البوابة تغرق في صمت السنين بعد غضب أحال زرقة بحر عمان إلى الأحمر القاني.

أتأمل البوابة الباذخة للبيت وقد استعارت إفريز بوابتي قصري العلم والحصن، ونمط البناء إغتنى بالعمارة السائدة في بيوت الرقعة المسقطية ودروازات مسقط ومطرح والمدرسة السعيدية بمسقط ومستشفيي ولجات وطومس، ومبنى القنصلية البريطانية وقصور الأثرياء.

والمدافع التي طمرت فوهاتها في بيت جريزة بمسقط وجدت في أرض مطرح ما يستحق لأن تغوص في التربة لتنبض عنفوانا وهيبة.

وتتباهى الزخرفة في الأبواب والنوافذ بالوشائج بين موانيء مسقط وبمبي وزنجبار.

وتبسط أسقف الغرف قطيفة من البسط الموشاة بحطب الكندل.

وأقف في مواجهة البوابة لأستأذن المدفعين الرابضين قبل أن أدلف بخطوات مترددة لبيت البرزة، فأتشفع بأبي كأحد قضاة البيت المطرحي وأضع قلادة من الأسئلة عند فوهة المدفعين عن عمرهما،  وعن بلد الصنع، وعما  إذا كانا غنيمة حروب الأئمة والسلاطين أو خرجا من ترسانات الصناعة الحربية لليعاربة.

وأنهي أسئلتي للمدفعين بسرعة دون انتظار للإجابات فأندفع عبر صف من الحاشية الواقفة ببنادق جنود الحرب العالمية الاولى يتقدمهم الطارش معروف الذي يرسله الوالي بنقل أمر شفوي فتتزلزل القلوب ولا تستقر حتى يعرف المتلقي موضوع الاستدعاء.

يحملني الممر الطويل جهة اليسار حيث يجلس السيد خالد السعيدي والمشايخ سهيل العامري وحمود بن سعود الخنجري وعبدالله بن عمر الكندي والذين يتولون المهام التوثيقية والإدارية للمحكمة الشرعية.

وأواصل المشي في الممر لأنتهي عند باب المحكمة الشرعية لولاية مطرح وتوابعها حيث لا يضام أحد ولا يظلم، وحيث يقف الكل أمام مسافة واحدة من رمانة الميزان.

طلاء الغرفة الأبيض للمحكمة بدا هنا إنسانيا رغم أن الفرشاة نفسها مرت بكل جدران بيت البرزة، والفرشاة نفسها اغترفت من نفس حاوية طلاء جوتن، إلا  أن العمائم واللحى أينما حلت تضفي لمسة للألوان.

وكان من المفترض أن تكون هذه الغرفة أكثر تفاصيل بيت البرزة قسوة فمنها تصدر الأحكام بالسجن والغرامة بل وحتى الإعدام، ومع ذلك بدت على النقيض من الرعب في الممر حيث يجلس حملة البنادق.

وبدت وجوه المحكمة نورانية عكس ملامح الطارش معروف وبقية الحاشية التي يتطاير منها الشرر، فالقضاة يتعاملون مع الأمير والمأمور والغني والفقير بمسطرة العدل الشريف.

أستعيد قاعة المحكمة وأستذكر الرجال الذين تقلدوا القضاء فقد تعطر المكان يوما بالعلامة الشيخ خلفان بن جميل والعلماء الفضلاء المشايخ عبدالله بن محمد الخروصي وسالم بن حمود السيابي ومحمد بن شامس البطاشي وغيرهم.

وأقلب في ذاكرة المحكمة وسجلاتها لأقف على سير القضايا والأحكام النافذة، فإليها كان يترافع الناس في مختلف القضايا من التنازع على شبر من الأرض إلى الغش في البيع، ومن قضايا الايجارات إلى الدماء والقضايا الجنائية، ومن فتح نافذة تطل على بيت آخر فتجترح أسراره إلى حوادث السيارات، ومن جنح التعدي باللسان إلى تعاطي التدخين والمسكرات.

وأترك قاعة المحكمة تسبح في لجج النور لأتوجه شمالا حيث سكرتارية الوالي ومكتبه لتتسمر العيون في تقاطيع رجل يتكرر في حفلات التخرج بالمدرسة السعيدية.

كان شامخا كسارية العلم، وبوجه أحمر كلون الراية إنه إسماعيل الرصاصي الذي كلما جلس على كرسيه دار حول مطرح دورة ، ودارت حوله مطرح ألف دورة.

كانت قامته أعلى من تلك التي تطاول سارية السعيدية رغم اختفاء نصف قامته خلف طاولته الباذخة وأنا أمد يداً مرتعشة لأصافحه.

وكان مكتبه مغايرا للمألوف في مكاتب الولاة الذين عرفتهم، فقد كان الولاة بسطاء كعامة الناس، ويفترشون البسط في الحصون مع الناس.

وكانوا يتحدثون مع أطراف الدعاوى المنظورة كأصدقاء، بينما بدا مكتب اسماعيل الرصاصي مهيبا كمكاتب العسكريين في بيت الفلج، وعلى حيطانه خارطة الكون كالخرائط التي أمامهم، وبجواره الهاتف الذي يرن فترتعش أوصال الوالي والبيت ومطرح إذا كانت المكالمة من ظفار.

كان في ستينيات عمره رغم أن بشرته ترجعه ثلاثين سنة للوراء رغم مسؤولياته التي تشيب لها الرؤوس والأدان فهو يجمع بين ولاية مطرح ورئاسة الولاة عبر ولايات الساحل الممتدة حتى خطمة ملاحة.

وأضاف له جلالة السلطان سعيد بن تيمور إلى جانب كل ذلك مسؤولية التعليم كناظر للمعارف والذي يوازي اليوم وزير التربية، إلى جانب تمتعه بدور استشاري للقصر، ورفيق زيارات السلطان الخارجية.

ويتولى الوالي الجوانب التنفيذية للمحكمة الشرعية من إحضار الخصوم للمثول بين يدي القضاة إلى تنفيذ الأحكام بارسال من صدرت في حقهم عقوبات إلى السجن الواقع في قلعة مطرح إلى جانب مهامه الاخرى في حفظ الأمن واستتبابه في الولاية بالتعاون مع الأجهزة الأمنية والشرطية بالإضافة للأمور المراسمية والبروتوكولية كاستقبال قباطنة البوارج الحربية الزائرية وضيوف البلاد.

لقد جاء الرصاصي إلى مسقط من القدس منتدبا للعمل كمدرس مع بدء التعليم العصري بافتتاح  المدرسة السلطانية السعيدية بمسقط ثم تم ترفيعه كناظر للمدرسة.

الا انه سرعان ما جمع بين التعليم والحكم المحلي والقضاء حتى آخر يوم من أيام عهد جلالة السلطان سعيد بن تيمور.

ولم يكن تعاقده محددا بزمن فقد جاء إلى عمان ليستقر ومعه عائلته، بل أنه اصطحب والده معه ليعيش في بيت البرزة حتى كتب الله لوالده الوفاة فيدفن بجوار بيت البرزة في سفح جبال العريانة.

وظل  قبر خليل الرصاصي إلى عهد قريب أرفع قبور مدفن العريانة أو العرين حاليا، فكان يرتفع عن الأرض بمصطبة إسمنتية تحمل اسم المتوفى وتاريخ الوفاة.

وقد ذهبت للبحث عن القبر فقيل لي أن الناس توسعت في البناء لما بعد القبر ، فبدا القبر تحتها حتى جاءت  بلدية مطرح لتعيد تأهيل المكان فجرفته ليكون موقفا للسيارات.

وأعود إلى بيت البرزة فهو يتكون من طابقين، فتم تخصيص الطابق الأول  للمكاتب والعلوي للسكن  فتتوزع غرفه ومجالسه لإقامة الوالي وعائلته.

ويلتصق ببيت البرزة ملحق صغير من طابقين يستخدم كمناخ لضيوف مطرح، ومن ببن الذين أقاموا فيه على فترات متقطعة العلامة بن جميل السيابي.

وفي أواخر ستينيات القرن الماضي تم تخصيصه هذا الملحق كسكن لنائب الوالي.

وأخرج من تكثف الأزمنة في المكان وافترش الصرح المكشوف لمسجد الخمري الواقع قبالة “الباور هاوس” أو شركة كهرباء مطرح والذي لا يبتعد عن بيت البرزة الا بأمتار، وصادف جلوسي أن مر السيد محمد بن أحمد البوسعيدي ونجلاه الهلال ونوح وقد خرجوا من ملحق بيت البرزة  أو سكن بيت نائب الوالي في طريقهم لسوق الظلام حيث اعتاد السيد تمضية بعض الوقت في دكان صديقه الصيدلي علي عبدالحسين.

كان السيد متهندما بدشداشته الخضرنج وعلى رأسه عمامة أقرب للون الدشداشة، فيمشي الركب عابرا “الباور هاوس” ومسجد الخمري  ليصل خور بمبة عند التقاء دكان الشيخ محسن بن حمد.

وأستعيد المشهد اليوم بالكثير من التعجب، ففي صغري لم يسعفني العمر ولا الوعي لأتساءل عن الحكمة في أن يكون إسماعيل الرصاصي هو الوالي والسيد محمد هو النائب، مع كامل التقدير للوالي الرصاصي وخبراته واستيعابه السريع لمهام هذه الوظيفة وولائه الصادق للتاج السعيدي.

وحين أعاود زيارة المكان يلح التساؤل بقوة عن خصوصية هذه الوظيفة في الثقافة العمانية ومقامها الإجتماعي، وعن الحكمة في إسناد جلالة السلطان سعيد لمثل هذه المسؤولية الكبيرة لشخص غير عماني في الوقت الذي يتقلد فيه العماني منصب النائب أو المساعد ، خاصة وأن المساعد هذه المرة  ليس من بسطاء الناس بل هو بقيمة وقامة ومقام السيد محمد بن أحمد البوسعيدي خريج مدرسة الإمام الخليلي وسليل السادة الأماجد وممن تمرس في مناصب الولاة في السيب وجعلان والعارف بتاريخ عمان السياسي والقبلي والعارف بالأنساب، وهو العالم والأديب، ومع ذلك لا تشفع له كل هذه المؤهلات فتضعه الأقدار كمساعد لرجل تبقى معرفته بعمان معرفة متواضعة قياسا بالسيد محمد بن أحمد، إلا أن جلالة السلطان سعيد كانت له رؤيته وخياراته وهي حالة مستغربة حتى أعاد سيد عمان الإعتبار للمقامات بتعيين السيد محمد بن أحمد كوزير للعدل والداخلية والأراضي حتى استقر كمستشار لجلالته للشؤون الدينية والتاريخية.

وقد تعاقبت على هذه الوظيفة السامية بعد الرصاصي العديد من الأسماء الهامة كصاحب السمو السيد ماجد بن تيمور آل سعيد والسيد نصر بن حمود بن علي والمشايخ بدر بن سالم بن حمود السيابي وسعود بن خلف بن محمد الخروصي ويحي بن ناصر الحراصي والسيد أحمد بن هلال بن سعود البوسعيدي وغيرهم.

وأعود إلى المكان فإذا بالمبنى قد جدد زمنه وبدل اسمه وطلاءه وخلع حلله وولاته وقضاته، وظهر ببناء جديد ونمط جديد بما في ذلك واجهته التي تحولت نحو الشرق بعد أن كانت مشرعة باتجاه الجنوب.

كما اقتلع المدافع الغائرة في التربة المطرحية.

ولم يحتفظ المبنى بشيء من أمسه إلا المدفعين لتزيين البوابة الجديدة.

أقترب من الحيطان لأتحسسها فلا تعرفني، وأتمسح بحديد المدفعين فيزداد صمتهما.

وأدخل المبنى دون خوف من الطارش معروف ولا الحاشية المجللة بالبنادق القديمة.

وأمشي فلا أرى الممر، وأتلفت يمنة ويسرة فتغيب وجوه حمود الخنجري وسهيل العامري وعبدالله ابن عمر الكندي.

وأمشي فلا أرى المحكمة ولا القضاة.

إلا إن ما يفرح أن السيد أحمد بن هلال البوسعيدي يجلس على كرسي والي مطرح، وان الكرسي يدور ولكن دورانه ليس كدوران كرسي إسماعيل الرصاصي حول نفسه مرة، وحول مطرح ألف مرة.

—————–

مسقط في ٥ فبراير ٢٠١٨ م.

 

نشر هذا المقال في العدد (29) من مجلة التكوين …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق