مقالات

هؤلاء لا يحبون النخيل

حمود بن سالم السيابي
—————————
كانت “هصَّاصة” عين النقصة آخر نخلة رأى من غدورها العالية غيل الدك.
وكانت الرطبة الأخيرة من العسقة الأخيرة في “الهصَّاصة” آخر العهد بالخَراف ، فمرهون بن محمد يودع الفيحاء من ذرى النخل ، ويرى الحارة الخضراء من وراء دموع الوداع كالحةً الألوان ، وسواقي “القلعي” و “بلفاعي” أخاديد بين جرح وجرح بعد أن كانت أنغاما تنساب بين جنينة وجنينة.
يتحامل مرهون على “صوعه” وهو يهبط ، وتتحسس قدماه “كربة خاشَّة” فيتخير أخرى ليتثبت اتقاء السقوط ، إلا إن اللآلئ التي تومض في شماريخ نخلة الهصَّاص كل قيظ لن تستقر في “مخرافه” بعد اليوم.
وُلِدَ مرهون بن محمد مع فسائل المقاصير ، وكلما فَرَعَ النخل بمقدار “كربة” ازداد مرهون شبرا.
وحين يباكر الفلج المقاصير لتشرب يكون مرهون قد ارتوى قبلها.
يخرج مرهون من بيته كل صباح على تلويحة “الزور له فيمشي في السكيك بعنق مشرئبة للغدور ، فيهمس : أن هذه بحاجة ل”شراطة” ، وتلك “مجنونة” بحاجة لموكاب لتستقيم ، وهذه سيثقلها “بَناوْها” إن لم يُجْتَث.
ويبدأ القيظ كل موسم باحمرار “قش بطاش” واصفرار “النغال وقش المنحي” ، إلا إن وجه مرهون يستبق تلوّن الغدور فيتراقص الفرح على وجهه وهو يقدم للهناقرة “تبشرة” المواسم فيشيع البهجة في المكان.
وفي كل عام تدخله غيل الدك تشيخ النخيل وتتشقق الأرض عن “صروم” جديدة حول أمهاتها ، فتتجدد المقاصير وتتعانق “العوانات والبكسات” ويكون مرهون في قلب المشهد يجذِّع ما شاب ، ويحفر “جفرات” جديدة لجيل الخلاص والخنيزي والفرض والزبد والهلالي.

ولأن مرهون ابن النخل وربيب الزور فلا يوجد شبر بجسده إلا وعليه شَكَّة من سلَّاء أو “سحلوف” من “كربة” متحفزة.
وأدخل بيت مرهون بن محمد في عزلته القسرية بجوار مسجد الصريببخ وسبلة اللمباة فأرى “الصوع” الذي امتشقه طويلا وقد تيبست مسندته لغياب الظهر الذي يتدفأ به ، واخشوشنت حبال الصوع لافتقاد أليافه للأيادي التي تقبض عليها لتلين.
وأرى “المخرف” في زاوية من البيت وعلى قعره تيبست خشاشة من آخر خرفة.
وبين “الصوع والمخرف والموراد” كان هناك مرهون بن محمد الغارق في أحزانه وهو ينتظر مصير العوانات ليتيبس شامخا وهو على وقفته.
وأخرج من بيت مرهون و”صوعه” يبحث عمَّن يمتشقه ، ويجدِّد به الوشائج مع المقاصير ، وليرى غيل الدك من غدور العوانات.
أصادف في الدرب المترع بغياب عشاق المكان البنجالي نور الإسلام وقد امتشق صوعا كصوع مرهون ، ويشرئب بعنقه إلى الغدور كما يشرئب عنق مرهون نحو الغدور.
أقف مع نور الإسلام تحت “مزناج عوانة” تحرِّك سعفاتها بتوتر دون أن أعرف ما إذا كانت توبخني أم تشكو من نور الإسلام.
أسأل البنجالي الممتشق الصوع عن هذه النخلة التي يقف تحتها فقال إنها “نغال العومة” نسبة لطول رطبها الذي يقارب حجم العومة ، ولأن الحمير في الأيام الخوالي كانت تنزل شحنة العومة المجلوبة من البحر الحدري لتباع تحت جوسها.
أمشي مع نور الإسلام ومعنا الظلال والجدر والأسئلة فأباغته بسؤال متى تشرب نخيل “الشايب ثني” فيتحدث بتفاصيل التفاصيل عن المواقيت و”الصوار” الذي “يولِّمه” لها ليندفع الفلج .
أسأله عن نخلة بدت حزينة مثلي فيسرع بالقول إنها “الزبد” وهي لفلان.
وتلك ؟ هي “مخلَّف فلان.
ولمن هذه ؟ إنها لعلان وقد شكَّتني منها سلَّاة في كتفي قبل يومين.
أسأله ما إذا كان “ساح النبات” ؟ فيتأكد من التاريخ الذي يندفع في ساعته “الكاسيو” قبل أن يجيب بالنفي أو الإيجاب ؟.
تحدث بإسهاب عن عدد شماريخ التنبيت التي تحتاجها هذه النخلة وعن أن أية زيادة في العدد ستحرقها ، وأي نقصان سيجعلها “تقرفد”.
لقد ارتقى نور الإسلام كل نخيل مرهون وتوغل في ذاكرة المقاصير ، وقلب الصفحات ، وحفر إسمه بأظفاره على “كرب”الجريد وتغدر وشرط ونبَّتَ وحَدَّرَ وخرف وجدَّ وجاس خلال الديار ، إلا أنه مع ذلك لم يسدَّ غياب مرهون ، وسيبقى مجرد أجير لا يحب النخيل ، وإن أظهر محبته فلن تحبه النخيل.
ونور الإسلام وأن انتصف مخرفه ب”تبشرة” المواسم فلن نشمَّ في مخرفه رائحة قش البطاش كرائحة مخرف مرهون ، ولن تكون رطبة المنحي بنفس مذاق الرطبة المتلألئة في مخرف مرهون ، فمرهون إبن النخيل وربيب المقاصير.
———————
سمائل في الثامن من ديسمبر ٢٠١٨م.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق